أدلة تحريم المخدرات والمفترات والعقاقير النفسية وغيرها
بعد أن بينا حكم تناول المخدرات في الشريعة الإسلامية ، يمكن أن نلخص ما اعتمد عليه الفقهاء من أدلة عند الحكـم بتحريمها:
الدليل الأول: قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ الآية ، فكل طيب مباح وكل خبيث محرم ، والمخدرات بمختلف أنواعها خبيثة من أشد الخبائث وأعظمها ضررا ، فيكون تحريمها منصوصا عليه في هذه الآية .
الدليل الثاني: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ .
وقد تقدم أن متعاطي الخمر أو المخدرات كلاهما يفقد وعيه ويتصرف تصرفات طائشة تثير الشقاق والخلاف والعداوة والبغضاء وكلاهما يكون في
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 234)
غفلة عن الصلاة وسائر التكاليف أثناء فقده الوعي ؛ فيكون هذا دليلا على تحريم المخدرات . قال الذهبي في معرض حديثه عن الحشيشة: " وبكل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المسكر لفظا ومعنى " .
الدليل الثالث: ما رواه أبو داود في سننه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام . فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كل مسكر قليلا كان أو كثيرا وهو بعمومه يتناول المخدرات ، لأنها مسكرة على ما ذكره أكثر المحققين من علماء الدين والطب .
هذا ، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم كل مادة مسكرة خمرا سواء سميت بذلك في لغة العرب أو لم تسم به ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما: كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة .
قال ابن تيمية رحمه الله: " ومذهب جمهور المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء أن كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام ، وهذا مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه ، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة واختيار طائفة من المشايخ " .
وقال رحمه الله في كتابه " السياسة الشرعية ": [ . . والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتي من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وما أسكر ولم يفرق بين نوع ونوع ، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا . . وقد حدثت أشربة كثيرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 235)
وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب والسنة " . ا هـ .
الدليل الرابع: ما رواه ابن عمر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر .
فهذا الحديث أصرح في الدلالة على تحريم المخدرات مما سواه ، ذلك أن المخدرات إما أن تكون مسكرة أو مفترة أو جامعة بين الأمرين ، وعلى جميع هذه الاحتمالات فإن الحديث نص في النهي عنها ، والنهي يقتضي التحريم .
قال في عون المعبود عند كلامه عن هذا الحديث:
قال الطيبي : لا يبعد أن يستدل به على تحريم البنج والشعثاء ونحوهما مما يفتر ويزيل العقل ، لأن العلة وهي إزالة العقل مطردة فيها ، وقال في مرقاة الصعود: "إن رجلا من العجم قدم القاهرة وطلب الدليل على تحريم الحشيشة ، وعقد لذلك مجلسا حضره علماء العصر فاستدل الحافظ زين الدين العراقي بهذا الحديث فأعجب الحاضرين " .
الدليل الخامس: (أنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام ، لأنها تؤدي إلى مضار ومفاسد كثيرة فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن ، وتصيب متعاطيها بالتبلد وعدم الغيرة ، وتصده عن ذكر الله وعن الصلاة وتمنعه من أداء الواجبات الشرعية من صيام وحج وزكاة . . إلخ . وفي ذلك اعتداء على الضرورات الخمس: الدين ، والنفس ، والعرض ، والمال ، والعقل إلى غير ذلك من المفاسد والمضار) .
الدليل السادس: أنه لا يحل لمسلم أن يتناول من الأطعمة أو الأشربة شيئا يقتله بسرعة أو ببطء - كالسم بأنواعه - أو يضره ويؤذيه ؛ قال تعالى:
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 236)
وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وقال تعالى: وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ الآية . والقاعدة الشرعية المقررة في الشريعة الإسلامية: أنه لا ضرر ولا ضرار . روى الحاكم في مستدركه . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه .
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات .
"هذا الحديث " دليل ظني داخل تحت أصل قطعي ، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات . . ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار ، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك . وقد أثبتت التحاليل الطبية والتجارب العلمية أن المخدرات بأنواعها هي مصدر العلل والأمراض العقلية والنفسية والاجتماعية المنتشرة في أنحاء العالم .
الدليل السابع: أنه فضلا عما تحدثه المخدرات والعقاقير النفسية من آثار مدمرة للصحة وفتور في الجسد ؛ فإن ما ينفق من المال على شرائها يعتبر إضاعة له فيما لا ينفع في الدين أو الدنيا . وقد دلت الآيات القرآنية العديدة والأحاديث المستفيضة على استعمال المال في الأمور النافعة في الدين والدنيا وتجنب الأمور الضارة ، وذلك أن الله تعالى جعل المال قواما للعباد به تقوم مصالحهم الخاصة والعامة الدينية والدنيوية فهو ضرورة طبيعية في حياة الإنسان وهو أمانة بيد من يحوزه ، فمن تناوله من حله ووضعه في حقه واستعان به
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 237)
على ما خلق له من القيام بعبودية الله وإخراجه في الطرق التي تنفع العبد ويبقى له ثوابها وخيرها ؛ فقد أفلح ونجح ، ومن لم يبال من أين اكتسبه واستعان به على الفسوق والعصيان وتمادى بسببه في الظلم والبغي والعدوان ، وأطاع نفسه وهواه والشيطان ، فقد تعس وضل وباء بالخسران . قال الله تعالى:
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وقال تعالى: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا الآية ، وقال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا . والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وروى البخاري في صحيحه . عن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال . وروى البخاري معلقا من رواية المستملي والسرخسي : قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة وقال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما خطئتك اثنتان سرف أو مخيلة . وهذا هو العدل في تدبير المال أن يكون قواما: أي وسطا بين رتبتي البخل والتبذير وما سوى هذا فإثم وضرر ونقص في العقل والحال .
الدليل الثامن: أن المخدرات والعقاقير النفسية وغيرها من الموبقات تتوافر فيها كل أسباب التحريم الشرعي ، فهي فوق أنها مفسدة للصحة مضيعة للمال
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 238)
تهدد العلاقات الاجتماعية وتخل بالنظم المرعية والأمن العام ، لأن كل من يقبل على المخدرات وقد حظرتها الدولة وحرمتها يكون خارجا عن الطاعة الواجبة لولي الأمر بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ الآية .
نداء للمؤمنين بوصف الإيمان أن يطيعوا الله ابتداء ، وأن يطيعوا الرسول بما له من صفة الرسالة ، وطاعة أولي الأمر؛ لأن طاعتهم مستمدة من طاعة الله ورسوله ، وأولو الأمر المقصودون بالخطاب هم: "الولاة على الناس من الأمراء والحكام والعلماء المفتين ، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم طاعة لله ورغبة فيما عنده " . ولا يسع أحدا أن يربأ بنفسه وينسلخ من طاعتهم وامتثال أوامرهم إذا وجدها لا تتفق ونزواته وأهوائه الشخصية . روى مسلم في صحيحه . عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة .
الدليل التاسع: وهو خاص ببعض أنواع المخدرات والمفترات والتي منها: الدخان بجميع أنواعه واستعمالاته سواء أكان مضغا بالفم أو تدخينا عن طريق السيجارة أو الشيشة والغليون أو استنشاقه مسحوقا أو غير ذلك وقد ذهب إلى تحريمه جمع من أكابر العلماء وجهابذة الفقهاء وجميع الأطباء المعتبرين . وقد أورد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله نقولا كثيرة عن أرباب المذاهب الأربعة وغيرهم تدل على خبثه ونتنه وإسكاره أحيانا وتفتيره ، وذلك في فتوى سماحته رحمه الله في حكم شرب . الدخان ، قال وممن ذهب إلى تحريمه من علماء الحنفية : أبو الحسن المصري الحنفي قال ما نصه: (الآثار النقلية الصحيحة
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 239)
والدلائل العقلية الصريحة تعلن بتحريم الدخان . . وقد نهى الله عن كل مسكر ، وإن قيل إنه لا يسكر فهو يخدر ويفتر أعضاء شاربه الباطنة والظاهرة . والمراد بالإسكار مطلق تغطية العقل وإن لم تكن معه الشدة المطربة ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة ، وإن لم يسلم أنه يسكر فهو يخدر ويفتر . . وقد روى الإمام أحمد . وأبو داود . عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كل مسكر ومفتر . قال العلماء: المفتر ما يورث الفتور والمخدر في الأطراف وحسبك بهذا الحديث دليلا على تحريمه ، وأنه يضر بالبدن والروح ويفسد القلب ويضعف القوى ويغير اللون بالصفرة ، والأطباء مجمعون على أنه مضر ويضر بالبدن والمروءة والعرض والمال وفيه التشبه بالفسقة لأنه لا يشربه غالبا إلا الفساق والأنذال ورائحة فم شاربه خبيثة) ا هـ .
وفي موضع آخر . من فتوى سماحته رحمه الله قال: وممن ذكر تحريمه من فقهاء الحنفية أيضا الشيخ محمد العينـي ذكر في رسالته: تحريم الدخان والتدخـين من أربعة أوجه:
أحدها كونه مضرا للصحة بإخبار الأطباء المعتبرين وكل ما كان كذلك يحرم استعماله اتفاقا .
ثانيها: كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم المنهي عن استعمالها شرعا لحديث أم سلمة السابق .
ثالثها: كون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه وعلى وجه الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها ، بل وتؤذي الملائكة المكرمين ؛ روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أكل من هذه البقلة الثوم ، وقال مرة من أكل البصل والثوم والكرات فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم .
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 240)
ومعلوم أن رائحة المدخن ليست بأقل كراهية من رائحة من أكل ثوما أو بصلا . وبهذا يتقرر أن المخدرات والمفترات والعقاقير النفسية والدخان والقات وما يلحق بها خبائث محرمة بالأدلة النقلية والعقلية الصريحة الواضحة . تتوافر فيها كل أسباب التحريم الشرعي وفيها من المفاسد والمضار الدينية والدنيوية ما يجعل بعضا منها كافيا في تحريمها والزجر عنها وعقاب متعاطيها والله أعلم .
سادسا: حكم تعاطي المخدرات للعلاج ومدى مشروعية التداوي بها :
نقلت اتفاق العلماء على حرمة تناول المخدرات وأقمت الأدلة على ذلك ، كما اتفقوا أيضا على حرمة تناول اليسير منها إذا كان بقصد اللهو أو اللذة أو المتعة أو غير ذلك من المقاصد التي لا يعتبرها الشارع . ولكنهم اختلفوا في حكم التداوي بها خاصة وأنه قد ثبت أن لبعض العقاقير المخدرة آثارا دوائية ممتازة . وقد تكون هناك بعض الأمراض التي لا يفيد فيها إلا هذا المخدر أو تكون هناك بعض الآلام الشديدة التي لا تسكن إلا بالمورفيـن ونحوه . فهذه الفائدة المحدودة في حالات معينة لا ينبغي أن تدفعنا لأن نترك الحبل على الغارب ، وأن نلجأ إلى هذه المركبات بلا مراقبة ولا مسئولية مما يستوجب بيان آراء الفقهاء في حكم تناول هذه المواد من حيث الحل والحرمة .
فإذا أشار بعض الأطباء من ذوي المهارة في الطب والثقة في الدين على بعض المرضى بتناول قدر يسير من المواد المخدرة بقصد علاج بعض الحالات كتسكين بعض الآلام . . إلخ ، فهل يباح ذلك أم لا؟
والجواب: أن الفقهاء اختلفوا في حكم التداوي بهذه المواد المخدرة بناء على اختلافهم في حكم التداوي بالخمر .
فمن يرى أنها مسكرة ويعطيها حكم الخمر في الحرمة ، فإنه لا يبيح التداوي
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 241)
بها مهما كانت ضآلة القدر المستعمل في ذلك للأحاديث الكثيرة الواردة في عدم جواز التداوي بالخمر وأنها داء لا دواء .
وهذا ما يقتضيه كلام ابن تيمية وابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيثمي المكي ومن يرى رأيهم .
ومن يرى أن الحرمة إنما هي لضررها أو لإفسادها العقل ، فإنه يبيح القدر اليسير منها إذا كان بقصد التداوي وذلك لانتفاء علة الحرمة وهي الضرر والإفساد وذلك قياسا على حرمة الميتة ، فإنها تنتفي عن المضطر . . قال تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولا شك أن المريض مضطر وهذا رأي أكثر الفقهاء .
وترتيبا على هذا فإذا ثبت أن ضررا ما ، حق وقوعه بمريض ولم يكن بـد من تناول قدر يسير منها بقدر العلاج أجاز مداواته ؛ لأن ذلك ضرورة ولا إثم في الضرورات متى روعيت شروطها بأن:
1 - يقتصر على القدر الذي يزول به المرض وتعود به الصحة ويتم به العلاج .
2 - أن يكون ذلك بمعرفة طبيب مسلم خبير بمهنة الطب معروف بالصدق والأمانة والتدين . وعلى الدولة أن تضع ضوابط خاصة تكفل بيعها في أماكن محدودة كالصيدليات .
3 - ألا يوجد دواء غير المحرم ليكون التداوي بالمحرم متعينا ولا يكون القصد من تناوله التحايل لتعاطي المحرم .
هذا . . ومع التقدم العلمي في كيمياء الدواء لم تعد حاجة ملحة للتداوي بالمخدرات ، لوجود البديل الكيميائي المباح .
إذن فلا حاجة إلى استعمال هذه المواد نظرا لما ستؤدي إليه من تعريض
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 242)
المريض لمخاطر الإدمان والأمراض العقلية والجسمية والنفسية المترتبة على استعمالها .
سابعا: حكم الإعانة على تناول المخدرات :
اتضح لنا مما سبق أن حرمة تناول المخدرات صارت واضحة لكل ذي لب وأن تعاطيها للتداوي مشروط بالضوابط التي تقدمت قريبا . وبناء على ذلك: فإن الإعانة على التعاطي تكون أيضا محرمة ، لأن الوسيلة إلى فعل المعصية تكون معصية كذلك . كما أن الوسائل إلى الطاعات تكون طاعات كذلك . وهذه قاعدة إسلامية عظيمة حيث تأخذ الوسائل حكم الغايات فبيع السلاح وقت الفتنة حرام كحرمة بيع أرض للنصارى بقصد بنائها كنيسة وبيع العنب لمن يعصره خمرا ونحو ذلك .
والإعانة المحرمة تشمل: زارعي هذه المواد المخدرة والمتجرين فيها والمشترين لها والوسطاء فيها والحاملين لها لتوصيلها إلى الشاربين وصانعي مشتقاتها التي يقصد بها الاستعمال في التخدير بقصد تغييب العقل أو الحصول على شيء من النشوة والمرح ، كما أن الثمن الناتج عن بيعها حرام والصدقة به . لا تجوز .
وقد تضافرت النصوص الشرعية على ذلك منها:
قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 243)
[ ب ] حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . . الحديث . وبيع هذه المواد يدخل في تحريم بيع الخمر بطريق القياس بجامع تغييب العقل في كل .
[جـ ] حديث أنس رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له . فاللعن هنا واقع على جميع الأطراف المتعاونة على فعل المحرم .
[ د ] وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجالا من أهل العراق قالوا له يا أبا عبد الرحمن إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فنعصره خمرا فنبيعها فقال عبد الله بن عمر "إني أشهد الله عليكم وملائكته ومن سمع من الجن والإنس أني لا آمركم أن تبيعوها ولا تبتاعوها ولا تعصروها ولا تشربوها ولا تسقوها فإنها رجس من عمل الشيطان" .
[هـ ] حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أراد أن يهدي النبي صلى الله عليه وسلم خمرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها قد حرمت . فقال الرجل: أفلا أبيعها؟ فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، فقال الرجل: أفلا أكارم بها اليهود؟ فقال: إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود . قال: فكيف أصنع بها؟ قال شنها في البطحاء .
إن الخمر وسائر المخدرات والمسكرات بكافة أنواعها وأسمائها يحرم تعاطيها بأي وجه من وجوه التعاطي . كما يحرم تصنيعها وزراعتها وإنتاجها وتهربيها والاتجار فيها وبيعها وإهداؤها والتعامل بها على أي وجه كان وعلى أي صفة ، والإعانة على ذلك إعانة على معصية محرمة لا شبهة في حرمتها . . يقول الله
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 244)
تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ الآية .
فكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المؤمنين بكل قول يبعث عليها وينشط لها وبكل فعل كذلك ، وكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه .
وروى مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء . ولمسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا . قال النووي في شرح مسلم : ( هذان الحديثان صريحان في الحث على استحباب سن الأمور الحسنة وتحريم سن الأمور السيئة ، وأن من سن سنة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة ، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه ، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقا إليه وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك وسواء كان العمل في حياته أو بعد موته ) .
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 245)
فيحرم على المسلم أن يتملك شيئا من هذه السموم المهلكة من المخدرات والمسكرات وأن يملكها غيره بأي سبب من أسباب الملك من البيع والشراء والهبة والهدية وغيرها . ، كما لا يحل له أن يعاونه على شربها أو حيازتها وإحرازها ، فإن فعل فقد ضره والضرر منفي شرعا "فلا ضرر ولا ضرار" . في الإسلام ، فلا يحل لمسلم أن يضر أخاه المسلم بقول أو فعل أو سبب بغير حق ، وسواء كان له في ذلك نوع منفعة أو لا وهذا عام في كل حال على كل أحد" .
كما يعتبر الزارع والمروج والمهرب والتاجر لهذه السموم عاصيا ، لأنه يرضى لغيره أن يتعاطاها والإعانة على الطاعة طاعة والإعانة على المعصية معصية . روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني "أبدع بي " . فاحملني فقال ما عندي . فقـال رجل يا رسول الله أنا أدله على من يحمله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دل على خـير فله مثل أجر فاعله . وهذا يقتضي من دل على شر ، فعليه مثل وزر فاعله ، فكل من عاون غيره على البر والتقوى فهو من الدالـين على الخـير الداعين إلى الهدى ، وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان فهو من الدالين على الشر الداعين إلى الضلالة .
فلنكن دعاة خير وهدى ولنجتهد في مطاردة متعاطي هذه الآفات المدمرة وجميع من يعاونونهم على شربها أو ترويجها والاتجار فيها . والله المستعان .
حكم من استحل تناول المخدرات
والعقاقير المخدرة
الكبيرة السبعون بعد المائة: أكل المسكر الطاهر كالحشيشة والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وكالعنبر والزعفران وجوزة الطيب فهذه كلها مسكرة كما صرح به النووي في بعضها وغيره في باقيها ولا ينافي أنها تسمى مخدرة . وإذا ثبت أن هذه كلها مسكرة أو مخدرة فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر ، فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات ، لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه لأنه الآلة للفهم عن الله تعالى وعن رسوله والمتميز به الإنسان عن الحيوان والوسيلة إلى إيثار الكمالات عن النقائص فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر .
فمن تعمد شرب القليل من الخمر وكذا المخدرات بأنواعها مع علمه بالتحريم فقد ارتكـب كبيرة من كبائر الذنوب ، بل ذهب بعضهم إلى أن ذلك من أكبر الكبائر . ولا ريب أن كل ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة من أخبث الخبائث وفاعله مستحق للعن والطرد من رحمة الله تعالى إلا أن يتوب ، روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 247)
الله عليه وسلم: كل مسكر خمر وكل خمر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا ومات ولم يتب منها وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة ، وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر وروى الحاكم في مستدركه أيضا بسنده: أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم ينتهون إليه فأرسلوا إلى عبد الله بن عمرو يسألونه عن ذلك فأخـبرهم أن أعظم الكبائر شرب الخمر وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن ملكا من ملوك بنـي إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسا أو يزني أو يأكل لحم خنزير أو يقتلوه إن أبى فاختار أن يشرب الخمر وأنه لما شربها لم يمتنع من شيء أرادوه منه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبا ما من أحد يشربها فيقبل الله له صلاة أربعين ليلة ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حرمت عليه بها الجنة ، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية .
وقد وردت الأحاديث الكثيرة في تحريم هذه الخبائث والتحذير منها والوعيد لشاربها وتوعده بالعقوبة في الدنيا والآخرة إلا أن يتوب فمن تاب . . تاب الله عليه . روى الحاكم في مستدركه وصححه . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شرب الخمر شربة لم تقبل توبته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد لم تقبل توبته أربعين صباحا فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة . الخبال يوم القيامة وردغة الخبال:
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 248)
أي طينة الخبال أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى حين سئل وما طينة الخبال؟ فقال: عصارة أهل النار . أعاذنا الله من شرها وحرها وعصارة أهلها .
وهذا الذي تقدم فيمن شربها معتقدا حرمتها ، أما من شرب الخمر وسائر المسكرات والمخدرات مستحلا لها معتقدا أنها له حلال ، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى تكفيره وإباحة قتله إن لم يتب ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقد سئل عمن يأكل الحشيشة فأجاب: ( الحمد لله هذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أو لم يسكر والسكر منها حرام باتفاق المسلمـين ، ومن استحل ذلك وزعم أنها حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ) . وبهذا أفتى بعض فقهاء الحنفية كنجم الدين الزاهدي وغيره ، وعللوا ذلك بأن مفاسدها [أي الحشيشة ] أعظم من مفاسد الخمر .
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن مستحل ذلك فاسق زنديق تلزمه أحكام الفسقة في رد شهادته وعدم صلاحيته لتولي الوظائف العامة في الدولة ونحو ذلك والذي يظهر- والله أعلم- أن القول بكفر مستحل المخدرات والمسكرات أيا كان نوعها وجنسها هو الأقرب للصواب وهو الذي يتفق مع القواعد العامة في الشريعة الإسلامية التي تقضي بكفر من أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة . قال شارح الطحاوية : " لا خلاف بـين المسلمين أن الرجل إذا أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا " .
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 249)
"وروي عن علي رضي الله عنه أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال وتأولوا قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا الآية ، فأجمع علي وعمر أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا" . "ولقد ثبتت حرمة الخمر بدليل قطعي وهو القرآن الكريم والسنة والإجماع فمن استحلها فهو كافر مرتد حلال الدم والمال" .
"وفي المخدرات من المفاسد ما ليس في الخمر فهي أولى منها بالتحريم ، وقد أجمع العلماء على حرمة تعاطي هذه السموم ، وزراعتها والتجارة فيها وإجماع العلماء حجة شرعية يجب العمل بها ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب ، فإن تاب فبها ونعمت ، وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ؛ ذلك لأنه قد استحل حراما مجمعا على تحريمه " .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
( والحشيشة المسكرة حرام ، ومن استحل السكر منها فقد كفر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل مسكر خمر وكل خمر حرام يتناول ما يسكر ، ولا فرق بـين أن يكون المسكر مأكولا أو مشروبا أو جامدا أو مائعا . فلو اصطبغ كالخمر كان حراما ، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراما ، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم ، فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها سواء كانـت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن ) .
إن العجب كل العجب أن بعض المدمنـين والمهربين وتجار المخدرات يجادلون
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 250)
من غير خجل ولا حياء ويقولون وقولهم النكر والضلال بأنه لم يرد نص صريح من الكتاب والسنة بتحريم هذه السموم الضارة الخطيرة التي هي سم قاتل وداء عضال وجرثومة تستشري في جسم الأغبياء والجهلاء والمخدوعين كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا .
إن من يقول بحل شيء من هذه السموم ، فلا يخلو إما أنه مخدوع جاهل أو مكابر مُعاند ، وعلى كل حال ، فإنه يستتاب فإن تاب ورجع إلى الله وأناب وإلا فسيحفر قبره بيده ويلقى حتفه بنفسه جزاء وفاقا .
تاسعا: حكم تصرفات من يتناول المخدرات :
"إذا تناول المسلم شيئا من هذه المواد المخدرة باختياره وكان عالما بها وبحرمتها وسكر منها ، فقد يحدث منه طلاق لزوجته أثناء غياب عقله من أثر تناوله لهذه المواد . وقد يتصرف تصرفا خاطئا يؤدي إلى إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وقد يتفوه وهو في نشوة السكر وغيبوبة العقل بكلمة الكفر . وقد يقذف غيره وقد يعتق ويقر وينفي ويثبت فهل يؤاخذ بهذا كله؟ أم أن هذا من قبيل الأقوال وما كان كذلك فليس مؤاخذا به إلا ما كان من قبيل الأفعال" . وقبل أن نحرر الكلام في هذا المقام يجب أن نميز بـين السكران الفاقد للتكليف الذي لا نية له ولا إرادة ، وبين من لم يصل في سكره إلى هذه الحالة ، بل له تمييز وقصد وإرادة وبناء على هذا فإن السكران له حالتان:
الحالة الأولى: ألا يتكلم إلا بما يعقل ويتحفظ عن كثير من الكلام ويسمع الخطاب ويرد الجواب .
الحالة الثانية: أن يخلط في كلامه ويتصرف تصرفات تضر بنفسه وبالآخرين ولا يفرق بـين العدو والصديق ويغمى عليه ولا يعلم بما يقول .
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 251)
وأحسن ما قيل في حد السكران الذي لا يميز أنه الذي لا يعلم ما يقول لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ الآية 43 سورة النساء .
والذي يتناول من هذه المواد والعقاقير المخدرة لا يخلو حاله من واحدة من هاتين الحالتين ، بل إن الحالة الأولى بهم أغلب وبحالهم أنسب فإننا نرى أن أكثـر المتعاطين لهذه المواد والمدمنين عليها يشربون ويباشرون الأعمال ويتصرفون مع وجود نشوة السكر التي تظهر على أحدهم عدم الانضباط في بعض الكلام والحركات وملامح الوجه . وبما أن الأمر كذلك فإنهم مؤاخذون بما يتكلمون به من طلاق وعتاق وإقرار ونفي وإثبات وإن تعدوا في خلال سكرهم هذا فقتلوا أو جرحوا لزم القود منهم والقصاص والدليل على ذلك:
(1) أن أكثـر أهل العلم جعلوا جميع تصرفات السكران الفاقد للعقل القولية والفعلية لازمة له ، مؤاخذا بما يترتب عليها فأولى أن يؤاخذ من لم يصل في سكره إلى حد سقوط التكليف .
(2) أن البعض ممن يشرب المخدرات بل أكـثرهم يشربها بقصد أن تكسبه قدرة على ارتكاب المحرمات وفعل المنكرات ، فالأولى أن يؤدب هؤلاء بمؤاخذتهم بكل تصرفاتهم جزاء وفاقا .
(3) أن هذا الصنف من السكارى هم الذين حصلت بسببهم كثير من المصائـب الفادحة: انتهاك للأعراض وسفك الدماء وتعد على الأبرياء .
بقي أن نبين حكم تصرفات من غاب عقله وفقد التمييز بـين حقائق الأشياء بسبب تناوله لهذه المواد . وسيشمل الكلام المسائل الآتية :
1 - حكم طلاق السكران بسبب تناوله شيئا من هذه المواد .
2 - حكم معاملات من غاب عقله بتناوله لهذه المواد .
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 252)
3 - حكم من يؤدي الصلاة وهو تحت تأثير المخدر .
4 - جناية متناول المخدرات على غيره .
5 - الإقرار بالقتل أو الحد .
المسألة الأولى: حكم طلاق السكران بسبب تناوله شيئا من هذه المواد المخدرة عالما مختارا :
اختلف أهل العلم في طلاق السكران بسبب محرم هل يقع أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أن طلاقه يقع وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وميمون بن مهران والحكم ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وأبو حنيفة وصاحباه وسليمان بن حرب وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه واستدلوا .
(1) بعموم قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ من غير تفريق بين السكران وغيره إلا من خص بدليل .
(2) ولأن عقله زال بسبب معصية فينزل قائما وعقوبة عليه وزجرا له عن ارتكاب المعصية .
(3) أنه مكلف يؤاخذ بجنايته .
(4) ما ورد من الآثار: لا قيلولة في الطلاق ، كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه وغير ذلك من الآثار .
القول الثاني : لا يقع طلاقه ، وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز والقاسم وطاوس وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري والليـث
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 253)
وإسحاق وأبي ثور والمزني وهو مذهب الظاهرية والشافعي في أحد قوليه وهو رواية في مذهب أحمد واستقر عليها مذهبه مستدلين:
1 - بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر ، لأنه لا يعلم ما يقول .
2 - صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالمقر بالزنا أن يستنكه ليعتـبر قوله الذي أقر به أو يلغى .
3 - ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره .
4 - ولأنه زائل العقل أشبه المجنون والنائم .
5 - ولأن العقل شرط التكليف ولا يتوجه التكليف إلى من لا يفهمه .
الترجيح: والراجح القول الثاني وهو أنه لا يقع طلاق السكران وهو ما رجحه ابن حزم الظاهري وابن تيمية وابن القيم رحمهم الله تعالى ، وذلك للأسباب الآتية :
1 - قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ الآية . ففي هذا النهي إشارة إلى أن ما يقوله السكران- وهو في حالة سكره- غير معتد به .
2 - قوله تعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ سورة المائدة آية 89 . ولا شك أن الطلاق يمين واليمين لا يعتد بها إلا إذا كانت صادرة عن عزيمة بقصد الحمل على فعل شيء أو تركه وهذا ما يشـير إليه قوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ وطلاق السكران لا يمكن أن يقال عنه : إنه صادر عن عزيمة وإرادة حقيقية ، فحمل ما تلفظ به في هذا الصدد على اللغو أقرب ، وقد رفعت المؤاخذة عن اللغو بنص القرآن الكريم .
( الجزء رقم : 32، الصفحة رقم: 254)
3 - قوله صلى الله عليه وسلم في حق ماعز الأسلمي : أشرب خمرا بعد قوله صلى الله عليه وسلم أبه جنون؟ يومئ إلى أن السكر يترتب عليه إبطال الإقرار الذي صدر منه أثناءه فكذلك يبطل به لفظ الطلاق إذ كل منهما قول .
4 - ليس في الموضوع نص صريح والأصل بقاء ما كان على ما كان " حتى يرتفع حكم الأصل بدليل . والأصل هو وجود الرابطة الزوجية فلا ينبغي أن يرتفع هذا الحكم إلا بدليل صحيح صريح . وبهذا يترجح عدم وقوع طلاق السكران بسبب تناوله شيئا من هذه المواد المخدرة . . والله أعلم


































0 التعليقات:
إرسال تعليق